الأحد، 26 فبراير 2012

الوَطَنِيَّةُ

لعل هذه الكلمة مما اعتادت آذاننا سماعها تتردد هنا وهناك تنطلق من ألسن ربما تعرف نطقها وتعي جوهرها " وقليل ما هم "، وأخرى تتغنى بها ولا تدرك كنهها، وآخرون قد لا يلقون لها بالا ثم يخلطون بينها وبين رموز بعينها وفي قرارة أنفسهم أنها تماهت في الوطن ولعلهم يصرحون بأنها هي الوطن ويكونوا هم دعاة الوطنية.

إن الوطن وشيجة تجمع أفرادا تشدهم إليه عناصر تسري في دمائهم، يحسون بنفح عبيره في السراء، وبلفح هجيره في الضراء، لا يدرون ما الذي يشدهم إليه إذا نأوا عنه، ويشعرهم بالسكينة إذا أووا إليه، ينعمون بخيراته فيشكرون، ويكتوون بلأوائه فلا ييأسون ولا يضجرون.

الوطن ميراث الأجيال المتعاقبة؛ فنوا وبقي هو شامخا لا تزعزعه ريح عاتية، ولا تثلم بنيانه الضربات المدوية. ليس من الانصاف – في نظري الشخصي – أن نربطه بأيٍّ كان، ولا نباهي به في محافلَ لا تبعث على الفخر ثم نعتبرها أس الوطنية وأساسها ولحمتها وسداتها.

وطننا أعظم من أن توحده الملاعب والمهرجانات، وأعز من أن ترسم أعلامه على وجوه الغوغاء المائلين المميلين، وتعلو رؤوسا كأسنمة البخت المائلة، وأسمى من أن تجمعه رقصات الراقصين والراقصات، ودندنات المغنيين والمغنيات.

الوطنية شعور يجعلك تحسُّ بأن الوطن كلَّه يعنيك ما فيه ومن فيه، لا ترضى أن يدنس أي شبر منه بأي شكل من أشكال التنديس المعنوي والمحسوس، لا تطيق أن ترى سكانه ينجرون وراء سفاسف الأمور والترهات فتسعى جاهدا إلى الإصلاح ما استطعت باذلا وقتك وجهدك رخيصا في سبيل ذلك. ترى أن ما تقدمه هو واجبك الذي لا ترجو له مقابلا، بل هو قصار جهدك، وأقل ما يمكن أن تقدمه اتجاهه.

كم تعلوني الدهشة، وتملأني الحسرة حين أرى من يرفع عقيرته بالهتاف للوطن في مناسبات لا أعدها – شخصيًّا – مما يرفع شأن الوطن، ولا ما يُلبسنا ثوب الفخار والعزة، متهما من لم يفعل فعله بالتقصير، مرددًا: "إنتَ ما عندك وطنية" وهو في مقابل ذلك لا يقيم لوطنه اعتبارا فتراه لا يأبه بإصلاح نفسه علميا وفكريا وثقافيا، ولا يترك مكانا يقعد فيه إلا رمى ما يمكن رميه من أنواع المزابل، يعاكس هذه وتلك، ويكتب ذكرياته ومطالباته واحتجاجاته على جدران المرافق العامة وأبواب الحمامات، وربما دمّر وسرق، وكسّر وأحرق، لا يهمه إلا إرضاء نفسه المريضة، شعاره " من سلمت ناقتي ما عليّ من رفاقتي ".

يا له من حبٌّ رخيص وسهل؛ لا يحتاج إلى مجهود، ولا يكلفك أدنى مشقة وعناء، كن أول من يرقون سلالم مدرجات الملاعب؛ ملطخا وجهك بألوان المهرجين، وحاملا زادك من الطبول والمزامير، ولا بأس -إن كنت لا تجيد الرقص- بهزة تشعرك أنك تشرّبت حب الوطن، وكن في مقدمة مستقبلي الماجنين والماجنات من المغنيين والمغنيات، وتمايل تمايل السكران النشوان على قرع الطبول واختلاط يمتقع به ماء الوجه !

إن واجب الإعلام كبير في توضيح ماهية الوطنية، وتغيير ما اختلط بذلك من سخافات وخزعبلات لا تنبيء إلا عن ضحالة في الفكر، وتدهور في مفهوم الثقافة، وتراجع في الوعي اتجاه ما علينا من واجبات بحق الوطن، ولكنْ أنَّى لفاقد الشيء أن يعطيه ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق