الأحد، 20 مايو 2012

الفطرة للإنسان فقط
هناك خلطٌ بين مصطلحين تداخلا عند كثير من الناس، هما: الغريزة والفطرة، رغم أنهما مختلفان كما يشير بعض علماء النفس، وكما هو واضح من تدبر واستقراء آيات الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
فالغريزة – حسب علماء النفس- هي محركات أولية للسلوك تهدف إلى إشباع حاجات داخلية للجسم، ومن ذلك: الغريزة الجنسية، وغريزة التماس الطعام، والغريزة الوالدية، والغريزة التجمعية وغيرها. وللغريزة مظهر نفسي يتمثل في الانفعالات سواء كانت سلبية أو إيجابية، ومظهر جسمي يتمثل في السلوكيات والأفعال، ويشترك في الغريزة الإنسان والحيوان على حد سواء.
أما الفطرة فهي عبارة عن حالة يستطيع الإنسان من خلالها الاهتداء إلى الأشياء؛ كحب الخير ، والعدل، والاحسان، والإيمان بالله تعالى، وهي ما تميز الإنسان عن الحيوان، وهي المقصودة بقوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ).
والمتأمل في آيات الكتاب العزيز يجد أن الفعل (فطر) جاء بمعنى الإيجاد ابتداء دون سابق مثال، قال الله تعالى: ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) الأنعام 79، وقال: ( قال ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن ) الأنبياء 56.
أو جاءت صيغة اسم الفاعل (فاطر) وتحمل المعنى ذاته، كما في قوله تعالى: ( فاطر السماوات والأرض ) الأنعام 14 – يوسف 101 – إبراهيم 10 – فاطر 1 – الزمر 46 – الشورى 11. ولقد ذكر الله تعالى لفظة (فطر) مقترنة –عادة- بذكر السماوات والأرض وذلك لعظم خلقهما؛ فالله تعالى يقول: (لخلقُ السماوات والأرضِ أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) غافر 57، وهذا لا ينفي أبدا عِظَمَ خلقِ الإنسانِ وغيرهِ من المخلوقات ولكنَّ السماوت بما فيها من كواكبَ ونجوم ومجرَّاتٍ وأجرام وتعاظم حجمها، وكذلك الأرضُ بما فيها من كائناتٍ حية –من ضمنها الإنسان والحيوان- كالنباتات والطيور والحشرات والأحياء البحرية والجبال والوهاد مقارنة بسائر خلق الله أدعى إلى التأملِ والنظرِ فيهما وتكرار ذلك بقوله تعالى: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)؛ فرغم اختصاص الله الفعل (فطر) بالسماوات والأرض في كثير من آيات الكتاب العزيز إلا إنه يدخل في ذلك كل ما خُلِقَ فيهما؛ فهي أيضا لم يسبق وجودها بمثال ؛ فتلك إشارة عامة لجميع ما خلق الله تعالى في هذا الكونِ.
 كما ورد الفعل (فطر) في وصف السماوات والأرض بمعنى التشقق والتصدع، في قوله تعالى: ( تكاد السماوات يتفطرن...) مريم 90 – الشورى 5. وجاء الفعل (فطر) في معرض حديث الأنبياء والصالحين ليحمل المعنى الذي ذكرته في بداية حديثي (الإيجاد ابتداء دون سابق مثال ) مع الإشارة الضمنية إلى الحقيقة الناصعة التي جُبل عليها الإنسان منذ بداية خلقه وهي ما أودعه الله تعالى فيه من قدرة يستطيع من خلالها الاهتداء إلى معرفة الله، واختُص بها دون غيره من المخلوقات، يقول الله تعالى على لسان النبي هود عليه الصلاة والسلام مخاطبا قومه: ( يا قوم لا أسألكم أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني ) هود 51. فهذه الحقيقة كامنة في خِلقة الإنسان ولكن التوفيق للهداية إليها هو من عند الله تعالى كما جاء على لسان إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: ( إلا الذي فطرني فإنه سيهدين )الزخرف 27.
وجاء على لسان الرجل المؤمن من أصحاب القرية في سورة يس ؛ إذ يحدث قومه بداعي فطرته حين وُفِّقَ للاهتداء إليها، فيقول الله تعالى على لسانه: ( وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) يس22. كما جاء تذكيرا للكافرين بتلك الحقيقة عند سؤالهم عن البعث، قال تعالى: ( فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ) الإسراء.
ويقرر الله تعالى صراحة تلك (الفطرة) وأن الدين جاء موافقا ومتسقا لما (فطر) الناس عليه –دون غيرهم من الكائنات- وأنها من خلق الله يستحيل تبديلها أو تغييرها، يقول الله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) الروم 30.
ومما يدل دلالة واضحة على وجود تلك الفطرة وأنها من خواص البشر أن الإنسان وإن غشت الغواشي على عقله فصرفته عن ربه إلا أنه سرعان ما يركن ويرجعُ إلى فطرته مختارا دون إجبارٍ عند اشتداد المصائبِ عليه، قال تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ وفرحوا بها جاءتها ريحٌ عاصفٌ وجاءهمُ الموت من كل مكانٍ وظنُّوا أنَّهم أُحيطَ بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين)يونس 22، ويقول جلَّ شأنه: (فإذا ركبوا في الفلكِ دعوا الله مخلصين له الدينَ فلما نجَّاهم إلى البرِّ إذا هم يشركون) العنكبوت 65، ويقول: ( وإذا مسَّ الناس ضرٌّ دعوا ربَّهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمةً إذا فريقٌ منهم بربهم يشركون ) الروم33.