الأحد، 20 مايو 2012

الفطرة للإنسان فقط
هناك خلطٌ بين مصطلحين تداخلا عند كثير من الناس، هما: الغريزة والفطرة، رغم أنهما مختلفان كما يشير بعض علماء النفس، وكما هو واضح من تدبر واستقراء آيات الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
فالغريزة – حسب علماء النفس- هي محركات أولية للسلوك تهدف إلى إشباع حاجات داخلية للجسم، ومن ذلك: الغريزة الجنسية، وغريزة التماس الطعام، والغريزة الوالدية، والغريزة التجمعية وغيرها. وللغريزة مظهر نفسي يتمثل في الانفعالات سواء كانت سلبية أو إيجابية، ومظهر جسمي يتمثل في السلوكيات والأفعال، ويشترك في الغريزة الإنسان والحيوان على حد سواء.
أما الفطرة فهي عبارة عن حالة يستطيع الإنسان من خلالها الاهتداء إلى الأشياء؛ كحب الخير ، والعدل، والاحسان، والإيمان بالله تعالى، وهي ما تميز الإنسان عن الحيوان، وهي المقصودة بقوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ).
والمتأمل في آيات الكتاب العزيز يجد أن الفعل (فطر) جاء بمعنى الإيجاد ابتداء دون سابق مثال، قال الله تعالى: ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) الأنعام 79، وقال: ( قال ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن ) الأنبياء 56.
أو جاءت صيغة اسم الفاعل (فاطر) وتحمل المعنى ذاته، كما في قوله تعالى: ( فاطر السماوات والأرض ) الأنعام 14 – يوسف 101 – إبراهيم 10 – فاطر 1 – الزمر 46 – الشورى 11. ولقد ذكر الله تعالى لفظة (فطر) مقترنة –عادة- بذكر السماوات والأرض وذلك لعظم خلقهما؛ فالله تعالى يقول: (لخلقُ السماوات والأرضِ أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) غافر 57، وهذا لا ينفي أبدا عِظَمَ خلقِ الإنسانِ وغيرهِ من المخلوقات ولكنَّ السماوت بما فيها من كواكبَ ونجوم ومجرَّاتٍ وأجرام وتعاظم حجمها، وكذلك الأرضُ بما فيها من كائناتٍ حية –من ضمنها الإنسان والحيوان- كالنباتات والطيور والحشرات والأحياء البحرية والجبال والوهاد مقارنة بسائر خلق الله أدعى إلى التأملِ والنظرِ فيهما وتكرار ذلك بقوله تعالى: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)؛ فرغم اختصاص الله الفعل (فطر) بالسماوات والأرض في كثير من آيات الكتاب العزيز إلا إنه يدخل في ذلك كل ما خُلِقَ فيهما؛ فهي أيضا لم يسبق وجودها بمثال ؛ فتلك إشارة عامة لجميع ما خلق الله تعالى في هذا الكونِ.
 كما ورد الفعل (فطر) في وصف السماوات والأرض بمعنى التشقق والتصدع، في قوله تعالى: ( تكاد السماوات يتفطرن...) مريم 90 – الشورى 5. وجاء الفعل (فطر) في معرض حديث الأنبياء والصالحين ليحمل المعنى الذي ذكرته في بداية حديثي (الإيجاد ابتداء دون سابق مثال ) مع الإشارة الضمنية إلى الحقيقة الناصعة التي جُبل عليها الإنسان منذ بداية خلقه وهي ما أودعه الله تعالى فيه من قدرة يستطيع من خلالها الاهتداء إلى معرفة الله، واختُص بها دون غيره من المخلوقات، يقول الله تعالى على لسان النبي هود عليه الصلاة والسلام مخاطبا قومه: ( يا قوم لا أسألكم أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني ) هود 51. فهذه الحقيقة كامنة في خِلقة الإنسان ولكن التوفيق للهداية إليها هو من عند الله تعالى كما جاء على لسان إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: ( إلا الذي فطرني فإنه سيهدين )الزخرف 27.
وجاء على لسان الرجل المؤمن من أصحاب القرية في سورة يس ؛ إذ يحدث قومه بداعي فطرته حين وُفِّقَ للاهتداء إليها، فيقول الله تعالى على لسانه: ( وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) يس22. كما جاء تذكيرا للكافرين بتلك الحقيقة عند سؤالهم عن البعث، قال تعالى: ( فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ) الإسراء.
ويقرر الله تعالى صراحة تلك (الفطرة) وأن الدين جاء موافقا ومتسقا لما (فطر) الناس عليه –دون غيرهم من الكائنات- وأنها من خلق الله يستحيل تبديلها أو تغييرها، يقول الله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) الروم 30.
ومما يدل دلالة واضحة على وجود تلك الفطرة وأنها من خواص البشر أن الإنسان وإن غشت الغواشي على عقله فصرفته عن ربه إلا أنه سرعان ما يركن ويرجعُ إلى فطرته مختارا دون إجبارٍ عند اشتداد المصائبِ عليه، قال تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ وفرحوا بها جاءتها ريحٌ عاصفٌ وجاءهمُ الموت من كل مكانٍ وظنُّوا أنَّهم أُحيطَ بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين)يونس 22، ويقول جلَّ شأنه: (فإذا ركبوا في الفلكِ دعوا الله مخلصين له الدينَ فلما نجَّاهم إلى البرِّ إذا هم يشركون) العنكبوت 65، ويقول: ( وإذا مسَّ الناس ضرٌّ دعوا ربَّهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمةً إذا فريقٌ منهم بربهم يشركون ) الروم33.

السبت، 31 مارس 2012

بين إعمار الأرض والإفساد فيها
يطالعنا الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بحقيقة لربما غابت عن كثير من الناس فأصبحوا ينبهرون بشاهقات الأبنية، وروعة تصميماتها، ودقة زخارفها، وتباين ألوانها؛ فيعدون ذلك تحقيقا وتجسيدا لأمر الله – جلَّ شأنه – للإنسان بإعمار الأرض في قوله تعالى: ( ... هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) هود 61.

ولو رجعنا قليلا لنتعرف على حال الأمم السابقة – كما حكاها لنا القرآن الكريم – لوجدنا أنهم – بمفهوم أولئك- قد عمروا الأرض؛ فالله تعالى يقول: ( أولم يسيروا في الأرض فينظرو كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) الروم 9، ويقول في عاد: ( كذبت عاد المرسلين، إذ قال لهم أخوهم هودٌ ألا تتقون، إني لكم رسولٌ أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانعَ لعلكم تخلدون ) الشعراء 123-129، ويقول في ثمود: ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) الأعراف 74 ، ويقول فيهم أيضا: ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) الشعراء 149،  و ( كانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ) الحجر 82.

فمع أن الله تعالى سخر لأولئك الأقوام من الإمكانات الجسدية وغيرها ما استطاعوا به بناء القصور العالية، ونحت الصخور القاسية بيوتا فارهة إلا أنهم وصفوا بالإفساد في الأرض إذ لم يحققوا معنى الإعمار الحقيقي للأرض؛ فالإعمار ماديٌّ ومعنويٌّ، ويرتبط ارتباطا وثيقا بالإصلاح في الأرض، وهم قد حققوا أولاهما – الماديّ – وأغفلوا ثانيهما وهو الأهم إذ رغم ما وصلوه وصفوا بأنهم ( يفسدون في الأرض ولا يصلحون ).

إذن فالعبرة في أن يوصل إعمار الأرض الماديّ إلى تحقيق الاستخلاف الموعود به الإنسان في قوله تعالى: ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون )؛ فخلافة الأرض تستدعي إعمارها بما ذكرناه وإلا فقوم عادٍ خلفوا قوم نوح، يقول تعالى: ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة ) الأعراف 69، وثمود خلفوا قوم عاد، يقول جل شأنه: ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ) الأعراف 74، إلا أن تلك الخلافة لأولئك الأقوام لم يقوموا بها كما يجب فكان ما كان من معاجلة الله تعالى لهم بالعقوبة مع تحقيق شطر الإعمار الذي يتشدق به من أشرنا إليهم في بداية المقال.


سعيد الخصيبي

الاثنين، 12 مارس 2012

المسرحية
اِنتظرلحظة عزيزي القاريء فليس هذا المقال سردا تاريخيا للفن المسرحي ؛ بأساسياته ومبادئه وأبرز أعلامه ؛ كلام ربما صارت مسامعك تمتعض من سماعه لكثرة تكراره ، وأنا - ربما تعلم - لست بناقد ولا محلل مسرحي يستهويني هذا اللون من الفن.
ولكن لا أخفي عليك سرًّا فكثير مما يتصل بالفن المسرحي قد كان مقررا دراسيا ؛ في فترة من الفترات ؛ درسته واستفدت منه كثيرا ، والآن أخذت عنوان هذا الفن لأَسِمَ به هذه الكلمات لأنني لم أجد سواه يعبر عما أودُّ الحديث عنه.
لقد أطلت عليك كثيرا فلا تبتأس سأقص عليك قصة ، لا بل قصصا ؛ وستدرك ما أعنيه. يخرج فلان إلى مقر عمله ؛ لم يعهد عنه أنه منضبط في مواعيده ؛ ولكنه وصل اليوم قبل أن تستيقظ العصافير ! ( أيش السالفة ؟ ). سعادته سيزور المؤسسة.
وآخر يتحدث مع أبناءه في البيت عن الصدق والصادقين ومنازل الصديقين ، وكأنه نبي مرسل ، أو مَلَك مكرم ؛ وأفعاله - بعيدا عن أعين أسرته – تشهد أنه الكذاب الأشر !
و فلانٌ - الأستاذ - يدخل المدرسة في زيِّ القديسين ، فارِه القامة ، رافع الهامة ، متزن السلوك ، لا يُرى عليه أثرُ العارِ !! وهو يخفي وجها قذرا يظهر عُواره عندما يُرخي الليل ستاره.
أخي القاريء إن جميع أولئك الذين ذكرت لك كانت ستنكشف حقائقهم ، وتُعرف دخائلُ قلوبهم لولا أنهم قد أجادوا تمثيل أدوارهم الجديدة إجادةً جعلت منهم أساتذة يمكن أن يستفيد منهم أساطين الفن المسرحي.
هل تعرف ما سبب هذه الإجادة المنقطعة النظير للفن السابع الذي يعده بعض النقاد من أصعب الفنون ؟ سأخبرك ؛ إنها التنشئة التي درج عليها أولئك ، بل درج عليها معظمنا – وأحسب جميعنا – فمن رأس المجتمعات إلى أخمص أقدامها تفننوا في التمثيل بل أصبح البعض نسخة مزيفة لشخصية أخرى بعيدة كل البعد عن واقع شخصيته الحقيقية.
تلك التنشئة التي ترى أن إخفاء الدمامل والبثور ؛ عن أعين الآخرين ؛ بثوب من الحرير الناعم الملمس البديع المنظر خير من علاجها ! ولبس الأحذية الجلدية العالمية ، و ( الكمة العمانية المنجمة ) ، والأثواب غالية الأثمان التي تستر تحتها أجسادا منتنة أفضل من الاستحمام ! وتزيين البيوت بالرخام الخارجي والألوان الباهرة أبقى أثرا من تقوية أساساتها وتوسيع غرفها !
فاعذرني عزيزي القاريء إن قلت لك : إننا نعيش للآخرين ، ونموت لأجلهم ، وكأننا خلقنا لنرضيهم ؛ وإلا فلماذا لا نعقد صلحا بين بواطننا وظواهرنا ؟ ولماذا لا نطلق شخصياتنا المزيفة حتى تبين منا ؟ ولماذا لا نظهر بوجه واحد ؛ ونخلع باقي الأقنعة ؛ وإن تعددت المواقف واختلف من نخالطهم ؟
أترك الإجابة لك أخي القاريء فلم أجد لتلك الأسئلة من إجابة سوى أن أصف أنفسنا أننا نعيش في ( مسرحية ) متشعبة المشاهد والأحداث !


الأحد، 26 فبراير 2012

تفعيل البريد الإلكتروني

ترددت هذه العبارة كثيرا مع بدء تطبيق المراسلات الإلكترونية من قبل وزارة التربية والتعليم بسلطنة عمان؛ ويُراد منها ألا يكون البريد الإلكتروني صورة شكلية بل يصبح أداة من أدوات التواصل التي يتعامل بها موظفو الوزارة . ولنقف وقفة مع تلك العبارة فربما نستفيد منها شيئا ؛ قد يكون بعيدا عن فحواها لكنه يقع ضمن نطاقها بقليل من التأمل.
عندما يحفظ فلان قدرا غير يسير من القرآن الكريم ، ويجوّد ما يتلوه كأفضل ما يقرأ قاريء ؛ بصوت ندي ، ونَغَمٍ شجي ، يأخذ بمجامع القلوب ، ولكنه لا يبارح لسانه ، ولا يخامر جنانه ، فأقواله وأفعاله وفق ما يأمر الشيطان ؛ لا على نهج القرآن ، أما يحتاج هذا إلى " تفعيل البريد الإلكتروني " ؛ بأن يكون القرآن الكريم " مفعّلا " في سلوكياته ، وليس نسوكا يستر بها ما تهالك من أفعاله ؟
حينما نرفع شعارات الصدق والمساواة واحترام الآخرين ومكارم الأخلاق ، فنلقي المحاضرات العلمية ، والخطب البليغة الرنانة ، ونكتب المقالات ؛ في الصحف والمجلات ؛ ننمق فيها الجمل والعبارات ، ونستشهد فيها بالأحاديث النبوية والآيات ، ثم نحن بعد كل ذلك لا يجاوز ما قلناه حناجرنا ومحابرنا ، ألا يستدعي ذلك " تفعيل البريد الإلكتروني " ؛ فنعمل على أن نتمثل ما قلناه وكتبناه في واقع حياتنا ؟
وعندما نحشو أدمغتنا بمختلف المنظومات النحوية وشروحاتها ، ومنظومات التجويد ودقائق أحكامها ، ونتهافت على اقتناء الكتب في تلك الفنون ، ونحن لا نقيم جملة صحيحة على ألسنتنا ، ولا نحسن قراءة آيتين متصلتين من كتاب الله ؛ أما يدعونا ذلك إلى " تفعيل البريد الإلكتروني " ؛ ليكون ما كنزنا به العقول أداة نقيم بها الألسن ، وتبعدنا عن الخطأ واللحن ؟
وحين نحث الآخرين على الإنفاق في سبيل الله ، ونكثر اللوم والعتاب على المقصرين ، ونلقي باللائمة على أساليب تربيتهم في هذا الجانب ، وبيننا وبين الإنفاق بُعد المشرقين فبئس المتحدث ؛ أليس  الأولى " تفعيل البريد الإلكتروني " ؛ بأن يرى من نخاطب أفعالنا قبل أقوالنا ؟
مشاهد تتكرر ، وصور تتوالى ، لعلك – عزيزي القاريء – تستحضر كثيرا منها في مخيلتك الآن ؛ فإن لم تكن ممن يفعّلون بريدهم الإلكتروني فلا تلم غيرك إن لم يفعّلوه ، واعمل على تفعيل بريدك فما أحوجنا إلى " تفعيل البريد الإلكتروني ".

الوَطَنِيَّةُ

لعل هذه الكلمة مما اعتادت آذاننا سماعها تتردد هنا وهناك تنطلق من ألسن ربما تعرف نطقها وتعي جوهرها " وقليل ما هم "، وأخرى تتغنى بها ولا تدرك كنهها، وآخرون قد لا يلقون لها بالا ثم يخلطون بينها وبين رموز بعينها وفي قرارة أنفسهم أنها تماهت في الوطن ولعلهم يصرحون بأنها هي الوطن ويكونوا هم دعاة الوطنية.

إن الوطن وشيجة تجمع أفرادا تشدهم إليه عناصر تسري في دمائهم، يحسون بنفح عبيره في السراء، وبلفح هجيره في الضراء، لا يدرون ما الذي يشدهم إليه إذا نأوا عنه، ويشعرهم بالسكينة إذا أووا إليه، ينعمون بخيراته فيشكرون، ويكتوون بلأوائه فلا ييأسون ولا يضجرون.

الوطن ميراث الأجيال المتعاقبة؛ فنوا وبقي هو شامخا لا تزعزعه ريح عاتية، ولا تثلم بنيانه الضربات المدوية. ليس من الانصاف – في نظري الشخصي – أن نربطه بأيٍّ كان، ولا نباهي به في محافلَ لا تبعث على الفخر ثم نعتبرها أس الوطنية وأساسها ولحمتها وسداتها.

وطننا أعظم من أن توحده الملاعب والمهرجانات، وأعز من أن ترسم أعلامه على وجوه الغوغاء المائلين المميلين، وتعلو رؤوسا كأسنمة البخت المائلة، وأسمى من أن تجمعه رقصات الراقصين والراقصات، ودندنات المغنيين والمغنيات.

الوطنية شعور يجعلك تحسُّ بأن الوطن كلَّه يعنيك ما فيه ومن فيه، لا ترضى أن يدنس أي شبر منه بأي شكل من أشكال التنديس المعنوي والمحسوس، لا تطيق أن ترى سكانه ينجرون وراء سفاسف الأمور والترهات فتسعى جاهدا إلى الإصلاح ما استطعت باذلا وقتك وجهدك رخيصا في سبيل ذلك. ترى أن ما تقدمه هو واجبك الذي لا ترجو له مقابلا، بل هو قصار جهدك، وأقل ما يمكن أن تقدمه اتجاهه.

كم تعلوني الدهشة، وتملأني الحسرة حين أرى من يرفع عقيرته بالهتاف للوطن في مناسبات لا أعدها – شخصيًّا – مما يرفع شأن الوطن، ولا ما يُلبسنا ثوب الفخار والعزة، متهما من لم يفعل فعله بالتقصير، مرددًا: "إنتَ ما عندك وطنية" وهو في مقابل ذلك لا يقيم لوطنه اعتبارا فتراه لا يأبه بإصلاح نفسه علميا وفكريا وثقافيا، ولا يترك مكانا يقعد فيه إلا رمى ما يمكن رميه من أنواع المزابل، يعاكس هذه وتلك، ويكتب ذكرياته ومطالباته واحتجاجاته على جدران المرافق العامة وأبواب الحمامات، وربما دمّر وسرق، وكسّر وأحرق، لا يهمه إلا إرضاء نفسه المريضة، شعاره " من سلمت ناقتي ما عليّ من رفاقتي ".

يا له من حبٌّ رخيص وسهل؛ لا يحتاج إلى مجهود، ولا يكلفك أدنى مشقة وعناء، كن أول من يرقون سلالم مدرجات الملاعب؛ ملطخا وجهك بألوان المهرجين، وحاملا زادك من الطبول والمزامير، ولا بأس -إن كنت لا تجيد الرقص- بهزة تشعرك أنك تشرّبت حب الوطن، وكن في مقدمة مستقبلي الماجنين والماجنات من المغنيين والمغنيات، وتمايل تمايل السكران النشوان على قرع الطبول واختلاط يمتقع به ماء الوجه !

إن واجب الإعلام كبير في توضيح ماهية الوطنية، وتغيير ما اختلط بذلك من سخافات وخزعبلات لا تنبيء إلا عن ضحالة في الفكر، وتدهور في مفهوم الثقافة، وتراجع في الوعي اتجاه ما علينا من واجبات بحق الوطن، ولكنْ أنَّى لفاقد الشيء أن يعطيه ؟!

أبناؤكَ يُغَشُّون و يَغُشُّون !

مع استشرافنا للذكرى الوطنية الأربعين التي تصادف الثامن عشر من نوفمبر من كل عام لا يمكن لأي منا إلا أن يشهد بأن ما تحقق على أرض الوطن من المنجزات على كافة الأصعدة وفي مختلف الميادين هو نتاج عمل مخطط دؤوب للوصول إلى أعلى مراتب الرفعة – رغم ما يتردد بين الأزقة المتهالكة؛هنا وهناك،والفئات المهمشة؛بقصد أو عن غير قصد؛ وفي أروقة المنتديات الإلكترونية – التي تكفل حياة هنيئة لمن يستنشق هواء وطننا الغالي عمان.
إن الحديث عن كل ذلك لا تكفيه كلمات ترقم ، ولا قصائد تنظم ، ولا خواطر مواطن ملهم. وحسبي في هذا المقام أن أسطر كلمات أضع فيها يدي على جرح لا يزال يؤرقني ويؤرق كل غيور ألجم فوه بدعوى الحديث في السياسة ؛ أي سياسة تلك التي تغطى فيها الحقائق بأثواب الأباطيل التي تطرز بالخيوط المذهَّبة الزاهية لتصل بأزهى حللها المقنعة لكسب الرضى والتأييد !
أنا لا أطيق الحديث عن السياسة ولا من يشتغل بها ؛ فذلك شر – ليس محضا - نجانا الله منه ومن الخوض فيه ، ولكن حين تمس نارها كياننا وتوشك أن تعصف بسَمُومها علينا فتذرنا بلا هوية ؛ لا نعرف ما نريد ولا ما يراد بنا ؛ عندها لا يمكن أن نسكت !
إن سياسة التعليم – التي يحلو لي أن أسميها بسياسة التعتيم والتجهيل – لا يمكن أن تصنع مواطنا صالحا فضلا عن رجل يعتمد عليه الوطن في الرقي والتطور! أبناؤنا يصلون إلى مراحل متقدمة دون أن يحسنوا القراءة والكتابة ، ثم تأتي التقارير والنشرات الإخبارية والأفلام التعليمية لتتحدث عن افتتاح مدارس جديدة ، ومبانٍ جديدة لمديريات تعليمية ، وصولا إلى قصر وزارة التربية الذي لم – وربما لن – يرى النور ! ثم نطبل ونزمر – على أنغام الفنون الشعبية - كل ذلك لذر الرماد على العيون من قبل بعض التافهين الذين يخشون على الكرسي أكثر من خشية الله على التفريط في حقوق ناشئة لا ذنب لهم سوى أنهم استغلوا ليكونوا سلالم يدوس عليها أولئك ليصعدوا !
وما يلبث أبناؤنا حتى يصلوا إلى الصفوف العليا صفر اليدين من أدنى ما يمكن أن يخرج به طالب ؛ وهو القراءة والكتابة ؛ ليحاولوا أن يسدوا النقص بوسيلة(الغش) التي أتاحتها لهم البيئة والوسط المحيط ؛ رغم إمكانية التصرف حيالها بوسائل أقل ما توصف بأنها مضمونة النجاح ؛ ولكن لا بد منها حتى تكتمل الصورة الشوهاء التي تصل – كما أشرت - مزدانة رغم أنف كل من ينبس ببنت شفه !
صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد نبارك لكم عيدكم الميمون ، ونسأل الله لكم الصحة والسلامة ، والعمر المديد، ونبعث لكم رسالة صادقة من قلوب يسعدها ما يسعدكم ويؤذيها ما يؤذيكم، نقول لكم فيها:( أبناؤكَ يُغَشُّون و يَغُشُّون ).

ملاحظة: كتب قبل احتفالات سلطنة عمان بالعيد الوطني الأربعين

أبطأَ بهِ عملُه فأسرعَ به نسبه !

تكاد هذه العبارة – عنوان الموضوع - أن نقيم بها الوضع السائد فيما يخص ما يترامى إلى مسامعنا من أخبار نصبّح ونمسّى بها فتوشك أن تمجها الآذان فور سماعها  قبل وصولها إلى القلوب المتخمة بأوجاعها !

إنّ قاعدة ( هذا من شيعته وهذا من عدوه ) التي تحكم تبديد بعض الموارد المالية فيما لا طائل منه – في نظري الشخصي على الأقل -  لا يخفى على المتتبع لما يتم تناقله من أحاديث شفاهية ومراسلات إلكترونية وإنْ حكمنا على طائفة منها بالتضخيم المبالغ فيه إلا أن المصيبة ثابتة بقرائن لا تقبل التأويل !

لست هنا لأنصب نفسي محاميا يترافع باسم ( الشعب المطحون ) في محكمة المجهول أو المعلوم ، ولكنني – مثلك – أنظر من شرفة بيتنا الخَرِب ؛ الذي عاث به العاقُّونَ فسادا ؛ لأنظر إلى الآلاف بل الملايين وهي تُدار كما تدار الكأس بين محتسيها دون إنكار أو حتى استهجان لا لأن أولئك يستحقونها ولكن لأنهم وُلِدوا ليحملوا اسما كان له فيما مضى بريق !

فهل يرفع النسب إن تقاصر العمل ؟ وهل يَضَعُ النسب إن تسامى العمل ؟ وهل من قانون يقتص من أولئك على حساب هؤلاء ؟ وهل إغداق الأموال على ذوي الأنساب المشتهرة – مع افتراض ثبوت ما اشتهر بما يسمى بالأنساب – يشفع لهم العبُّ من الثروات دون حسيب ولا رقيب ؛ مع عدم استحقاقهم لها من بعيد ولا ولا قريب ؟

قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يروى عنه فيمن فرط في عمل الآخرة : " ... ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه " ؛ ويبدو أن من أعنيهم ممن أبطأ به عمله فأسرع به نسبه !